1/- الساعة الثانية عشرة ونصف٬ مضى على خروجي من العمل حوالي نصف ساعة، الطريق المؤدية إلى المدينة خالية تماماً٬ يندر أن أجد سيارة أجرة في مثل هذا الوقت٬ علي الانتظار٬ الانتظار سلاحي الأخير في هذا المكان القفر٬ أيام متكررة٬ وليال متلبدة بجو الغربة، أقيس عزيمتي، أجدها كهذه الصحراء، وصلت المنزل متأخراً. عقارب الساعة تشير إلى الثانية زوالاً، تناولت غذاء سريعاً واستلقيت نائماً، النوم طقسي المعتاد في مثل هذه الأوقات القائظة، استغرقت في نومي زهاء ساعتين، وعندما أفقت غزى طيف الوداع خيالي: قبل حارة وعناق، ولسان يلهج بالدعاء، حملت حقيبتي ومضيت مسرعاً...
نهضت في تثاقل، دخلت المطبخ، صدحات غيوانية تحرك بداخلي شجناً غريباً، في صحة اغترابي وزمني الضائع ارتشفت كأس الشاي الأول..
2/- أشتاق إليك مرة أخرى، وأنا أكتبك قصيدة بين الشك واليقين، بين الحيرة والإيمان، موسيقى ذكرتني بأول لقاء بيننا، أول مناسبة تبادلنا فيها الحديث، كان حديثا عاديا، لكنه أشعرني أن بداخلك إنساناً ناعماً، شعور دغدغ إحساسي٬ أطفأت قناديلي لأنصت إليك قليلا.. مضى على علاقتنا عام جميل٬ أوقدت ناراً صغيرة لأجلي٬ نافورة ماء دافقة من الأشواق، لم أنتظر طويلاً أنا المتردد دوما لأفاتحك في الموضوع.
تخوفت، مضى على خوفك عام كامل، تأسفت على أمر العلاقة التي لم يكتب لها أن تعلن عن بدايتها، حاولت أن أتناسى...
حتى فوجئت بك تهاتفينني انطلق الشلال الهادر ليكتسح صحرائي...
اتفقنا على لقاء مرتقب، والقلب يصيح: "ميدلت" الساحرة٬ "ميدلت" العاشقة، مما وراء العدم انتصبت تمثالاً، نجمة في سمائي، نورساً تائهاً يعزف أغنية للربيع، قطفتك وردة في غرفتنا٬ هناك في ذلك النزل الذي شهد توهجنا وانطفاءنا٬ سافرنا معاً جسدين أرقتهما الغيوم...
تلتهم سيارة الأجرة الإسفلت بين مدينتين، هناك أجدك تنتظرين في محطة القطار، نتناول وجبة غذائنا ثم نمضي سوياً نقرأ تفاصيل" ميدلت" الساحرة، بشوارعها، ومقاهيها، وشمسها، وناسها، نستريح في إحدى المقاهي، يضيع منا الزمان والمكان..
فتنة هو هذا الهوى في خاطري، عاطفة خاطفة تنقشع في سمائك بغتة، سلام عليك وأنت حدود المدى..
أحقا للغياب اشتهاءه لتوقيع الوصال؟ كنت دوماً أجني الإحباط من فرط غيابك المجيد.
في غرفتنا قضمنا معاً تفاحة هي الأشهى.. قالت حواء: – "ما ألذ هذا زدنا منه!"....
القمر الساقط بين عينيك يؤرقني، أتهجد في متاهات اغترابه، للحنين شيء من عبق الظل، ومدارك يد بضة تشعل في دواخل الجسد شيئاً من الرهبة، أريد السباحة في عينيك، يا حارسة الينابيع في دمي، يا سيدة المقام، يا نافذة الأمل المشرع خلف واحات السراب..
كمدمن كنت، كلما شرب زاد عطشه في صهد صيف حار، جاء بعد شتاء ماطرة..
3/_ حاضر يا سيدة المقام، سآخذك معي إلى منشىء الرهبة الأولى، أنا القصيدة و النشيد، أنا المهيأ للسقوط!. أنا آدم الخارج من الطين كهيئة الطير، أمد يدي إلى الشجرة فيجتاحني سحرك كقذيفة تعبر فلوات لا ضفاف لها، بالأمس كان لقاؤنا يلفه سحر المساء، صخب الموسيقى في أعماقي يوقد في النفس أحاسيس لروعة المكان.أريد السباحة في عينيك إذ تشرقان في وجهي. أنا البحر الهادر، وأنت المحيط... ننفلت من أنفسنا حيناً، لنقتحم سماوات بعيدة تعبرها ألوان القزح .عيناك شمس وقيثارة، وسنديانة وطرب..
من القلب إلى القلب رسول أولم يصلك شيء مما في قلبي؟ إذن خان الرسول رسالته!.
بيني وبينك خيول أضاعت حوافرها، بيني وبينك حقول أترنج وأمسيات صاخبات، بيني وبينك منضدة وأرخبيلات مجهولة... بيننا شفاه ظامئة وبقايا حكاية منسية!..
4/- جالس أنا بين قضبان صمتي، يعبر سكوني طيف من آخر لقاءاتنا، أرفع بصري فلا أجد لك طيفا، لحظة مشحونة بما يشبه البوح، في تلك الليلة الشاحبة احتد الحوار بيننا..الجرائد مرمية بغير نظام في أرجاء الغرفة، والكتب مبعثرة هنا وهناك، كتب "بن عربي" و"الحلاج" و"التوحيدي" هي الأقرب إليك، "الفتوحات المكية"،"فصوص الحكمة"،"الطواسين"، "المقابسات"، "مثالب الوزيرين"، تناولت أحدها بلا اهتمام، قلبت صفحاته، عثرت على قصيدة مهملة بداخله، قرأت عنوانها بصوت عندليبي:‹‹ يموت الحلاج كثيراً ›› رفعت وجهك مستفسرة، فقلت: ‹‹ الحلاج صورتي الأخرى! ››..
غريب أمرك حقاً ! في بعض الأحيان كان الحديث يصعد بنا إلى أقصى درجات السخونة، لم يكن لخلواتنا ما نملأ بها فراغها سوى أن نتجاذب أطراف الحديث هكذا؛ عن جنون السياسة، وفي الثقافة، والشعر، والتاريخ، والتراث، وكنت تظهرين لي باعاً وأنت تجادلينني، عندما رددت بهذا عليك، قلت إن ثقافتك ضحلة في التصوف، وأجد صعوبة في فهم تصوفك الماركسي!..
ماذا علي أن أفعل؟ هل أتقمص دور الأستاذ لأفسر لك تصوف الحلاج وإسلامه اليساري؟ هل أقول عنه مالم أقله عن "ماركس"، و"غرامشي"، و"لوك"، و"بودلير"، و"فرويد"، و"ديستوفسكي"، و"أرتو"، و"هوميروس"، و"ابن رشد "، و"الفارابي"؟..لا "الحلاج" أكبر من وضعنا هذا الذي نحن عليه!.
نحن الآن أشبه بالمقنعين الذين أوقدوا الشموع، في ليلة من ليالي حفلات الزار، عبرتها شماريخ الهراء والخيالات والتهاويم، وجلسوا يتبادلون النظر بينهم، عل تلك الروح تأتي..وماذا عساها تكون غير روح شيطان أنهكه الطواف بين حفلات زار أخرى قبل أن يهل علينا...أو روح شيطان يسكن تلك التفاحة التي ارتبطت بالسقوط والجاذبية..
أشرت إلي كي أسكت، ولعل هذا ما فعلته، حينها نهضت وأغلقت الباب، وأسندت ظهرك للجدار، ورحت تتأملين صورتي المصلوبة على الحائط، كأي خرتيت معلق على مشنقة يلفظ روحه في اليوم آلاف المرات، شارب رفيع طالما ذكرك بشارب "نيتشه"، قلتها مرات ساخرة... صمت طويل يلقي شباكه علينا، كلانا يعشق الصمت، وكلانا يعشق الثرثرة ‹‹ أحبك صامتاً ›› قلت، قلتﹸ:‹‹ الصمت أيضا كلام آخر!..›› ولدت أنبري في الغياب... يطول بنا المقام في رياضة الصمت الطويل...
"ألن تقول شيئاً؟!"-
5/- أخيراً رفعت شارة الهزيمة في مقام الصمت الرهيب، تراودين الكلام يمد بيننا سحره،..ياليتني أحببت شاعرة فتغرقني في صمت العواطف بالعيون. لن أقول شيئاً ياسيدتي، وماذا عساه يجدي الكلام في هكذا موقف؟!
"لا تبق صامتاً هكذا أحس بالملل"... -
لا تعيديها على مسامعي، الصمت لغتنا الوحيدة، هل بقي من معنى للكلام!؟ بالصمت وحده نفكر، نخرج من حمأة الأرض إلى أفق سماء رحيبة، الصمت أروع حديث بين الأحبة، رغم أنه لم يكن من مبادئ الأشاعرة والمعتزلة، لكنه طقس من طقوس الصوفية، اسألي في ذلك "البسطامي"، و"الفخار" و"الجنيد"، و"الجيلاني"، و"النفزاوي"، و"التوحيدي" وغيرهم ممن صمتوا دهراً فنطقوا كفرا !، هو أول العتبات للمريد بين يدي شيخه الواصل:‹‹ إفعل كذا، ثم صرف فعل صمت إلى المضارع..!››. فيصمت هائماً..ساهماً..سائحاً في ملكوت الروح، ويفتح عينيه على الكثير من دسائس النفس وأهوائها، والدنيا وغوائلها، والأخلاق ورذائلها، حتى يصل إلى مقام القطوف والرضا واليقين والمعرفة، ويدرك الولاية وأسرار الثورة الباطنية، فيصيح ثملاً مثل ما تزهر القوافي في قلب الشاعر:‹‹ كدت أراه! ››
كنا روحين فقط داخل الغرفة، تختفي من أفقنا كل الذكريات، ولا يبق في النهاية إلا أطيافاً وصمتاً خيم على المكان !.